هنا المعيبد
حول تاريخ التعليم وأنظمتة وطرق الإصلاح فيه في المملكة العربية السعودية
هنا المعيبد باحثة أكاديمية تركز على المراحل الإنتقالية للشباب من التعليم إلى سوق العمل. تسعى هنا حالياً للحصول على درجة الدكتوراه من معهد التعليم في جامعة لندن حيث تبحث في طرق انعكاس الهوية والثقافة والوضع الاجتماعي و الاقتصادي على الخيارات التي يتخذها الطلاب في اللحظات الانتقالية التخصصية
لماذا اخترت مجال التعليم ، وكيف طورت اهتمامك به؟
أنني الآن في مراحل إنهاء بحثي الدكتوراة من معهد التعليم في جامعة لندن. يتناول موضوع بحثي المراحل الانتقالية التي يمر بها الشباب الملتحقين في برامج التعليم والتدريب التقني والمهني في المملكة العربية السعودية. كانت تجربتي العملية في مجالات التنمية الشبابية ملهمة لاختيار مجالي البحثي. حيث لفتت أعمالي الأخيرة نظري إلى المرحلة الانتقالية ما بعد الثانوية و طرق اختيار الطلاب فرصهم المستقبلية ما بعد تلك المرحلة
شعرت حينها بوجود ثغرات كبيرة في فهمنا لهذه المراحل التحولية أو الإنتقالية في السعودية مما أشعل فيني شعور من الإحباط نحو صناع القرار وأساليب طرقهم المتخذة لملء تلك الثغرات المعرفية. فغالبًا ما كان الشباب مغيبين تماما عن النقاشات الدائرة حول تعليمهم الحالي والمستقبلي . و في الأحيان النادرة التي يتم بها استشارتهم ، تكون فقط لخدمة أغراض دلالية لمصلحة صناع القرار ، بدلاً عن أغراض إستشارية تتخذ آراء الشباب في تحديد نهجهم
أحبطتني أيضا العقلية الصومعية لبعض أصحاب المصلحة في مؤسسات التعليم ، والجهود والموارد الضائعة التي تترتب على بعض من قراراتهم. أؤمن أن هناك توجه و رغبة حقيقية في المملكة العربية السعودية (ودول مجلس التعاون الخليجي) في النظر إلى الشباب كمصدر استثمار نحو المستقبل ، و أؤمن أن هناك العديد من الخبراء المؤهلين الذين يصممون مشاريع هائلة لهذا التدبير ، مع ذلك، آمل أن أواصل جهدي كمناصرة لصوت الشباب ، و أدخر أبحاثي نحو إيصال تلك الأصوات إلى المسؤولين من أجل خلق الفرص التي يبتغيها شبابنا
برأيك ، ما الذي نفتقر إليه حاليا في فهمنا للقرارات الانتقالية التي يتخذها الطلاب بعد المرحلة الثانوية؟
بينما أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال مسألة معقدة للغاية ، أعتقد أنه يمكن تبسيطها كالتالي. تسود في مجتمعاتنا النظرة أن الطلاب يأتون بأشكال المختلفة ، وأن فرص ما بعد الثانوية هي الأوعية التي تناسب كل شكل بشكله. إنها نظرة تبسيطية بحته. ما لا نفهمه ، في رأيي ، هو لماذا يأتي الطلاب في "أشكال" مختلفة مع أنهم يتلائمون مع أوعية عدة مختلفة الشكل ، وما إذا كانت تلك "الأشكال" معرضة للتغيير بمرور الوقت أو الظروف. دعونا لا ننسى أن "الأوعية" أيضا معرضة للتغيير كالذي نشهده حاليا مع ما يسمى "بالثورة الصناعية الرابعة" أو الرقمنة
كما تسود عندنا النظرة الهرمية للفرص (من أعلى الفرص مستوى إلى افتقار التعليم أو الشهادة) و نطبق نفس تلك النظرة لمستويات الطلاب (النجاح إلى الفشل). في الواقع الأمر، إن الاختلافات في القدرات، والطموحات والمعرفة أمر يتعلق بالخلفية الثقافية والأسرية ، بالإضافة إلى بعض من العوامل البنيوية (على سبيل المثال ، في المناطق الحضرية مقابل المنازل الريفية). مع ذلك، لا يتم أخذ تلك النطاقات بالإعتبار بتاتا في مخيلاتنا
لنتحدث إذا عن أنظمة التعليم بالخليج. كيف تكونت تلك الأنظمة على أي أسس بنيت؟
يختلف الجواب بإختلاف الدولة الخليجية ، حيث أن لكل من هذه الدول تاريخ يميزها بالتعليم. ومع ذلك ، يمكن القول إن الملامح العامة لتاريخ التعليم في دول الخليج تتشابه في بداياتها (نرى روايات متشابهة في مواقع وزارات التعليم). إن التعليم تواجد بشكل غير رسمي ، ونُفذ بشكل رئيسي في المساجد و الكتاتيب و ركز على تلاوة القرآن والتعاليم الدينية
في حين أن في هذه الرواية صحة، شمل التعليم أيضا مواضع أخرى. هناك تاريخ طويل من السفر من أجل اكتساب المعرفة ونشرها ، ومن ثم النقل الشفهي للمكتسبات من ذلك التعليم، ولكن غالبا ما يتم نسيان ذلك الذكر في الروايات المتداولة في تاريخ التعليم
تحت تأثير العثمانيين والبريطانيين، تم إنشاء مدارس "رسمية" في بعض دول المنطقة لتقديم العلوم والرياضيات وما إلى ذلك. و لكن، لم تكن تلك المدارس إلزامية، وكانت غالبيتها مكلفة. كانت لتلك التأثيرات الأجنبية الناتجة عن الظروف الجيوسياسية تأثير رئيسي في تبني أنظمة تعليم رسمية أشبه بالأنظمة الغربية. حيث كانت جميع دول الخليج (بإستثناء نجد) مستعمرة إما بشكل بشكل رسمي أو غير رسمي من قبل بريطانيا أو الإمبراطورية العثمانية أو غيرها ، وبالتالي ، اعتمدت دولنا تنسيقات مماثلة لما يتم تطبيقه في تلك الدول
أمل نظام التعليم الجديد في وقتها، تحقيق عدة أهداف. كان أحدها بناء الاقتصاد النفطي ، و الآخر منها ارتبط بتوحيد المنطقة و نشر الاستقرار وبناء الوطنية
إذا، استطاعت أنظمة التعليم خدمة الأغراض الاقتصادية والسياسية بشكل عام. هل يمكنك توضيح هذه النقطة باتخاذ السعودية كمثال؟
توحدت المملكة العربية السعودية في عام 1932 ، في ذاك الحين كان عدد السكان قليل جدا داخل حدودها. سبقت توحيد المملكة "وزارة المعارف" التي أنشئت في عام 1925 ، ثم أصبحت فيما بعد وزارة التعليم. كانت هذه الوزارة مسؤولة عن وضع الأنظمة التعليمية ومراقبتها، لكن لم يصبح التعليم إلزامياً حتى الستينيات ، و شمل ذلك التعميم النساء . بحلول عام 1965 ، قدرت اليونسكو أن عدد سكان المملكة تراوح بين 4 و 6 ملايين نسمة ، وأن 95٪ من السكان في سن العمل (فوق 15 عامًا) كانوا أميين ولم يتلقوا أي تعليم "رسمي" . بالطبع لا يمكن ترجمة تلك الأمية كغياب المعرفة والتاريخ والثقافة – فغالبا ما يتم نسيان ذلك الجانب أو تجنبه أو إهمال الاحتفال و التنويه به
مع ذلك ، مع نمو صناعة النفط في الستينيات ، بدأت السعودية تحقيق إيرادات ضخمة تطلبت دعم المهارات والخبرة الخارجية للاستفادة من الأرباح وجعل البلاد أكثر تنافسية على مستوى العالم. لذلك بدأ النمو الاقتصادي السعودي يعتمد بشدة على العمالة الأجنبية ، مع تبنيها خطة واضحة لتدريب وتثقيف وتجهيز السعوديين لتولي تلك الأدوار في المستقبل. وضعت خطط واستراتيجيات لإعتماد نظام التعليم الإلزامي. وتمت الإستفادة من المستشارين الأجانب الذين وضعوا إستراتيجيات صممت نظامًا تعليميًا مستوحى من خبرات جمهورية مصر بشكل أساسي و من التعليم البريطاني. كما بُذلت جهود لإدماج ذلك مع الهياكل المحلية للتعليم الديني الغير الرسمي الذي إعتاد عليه المجتمع في ذلك الحين ، لذلك تم إدخال قدر كبير من التعليم الإسلامي في النظام الجديد. وكان هذا حجر أساس نظام التعليم المتعارف عليه اليوم ، وما زال نهج الإعتماد على الإستشاريين للتغيير والإصلاح قائمًا حتى اليوم
كيف أثرت أنظمة التعليم الرسمية هذه ، والتغييرات التي أُدخلت على الأنظمة الشعبية ، على المجتمع و أنماط حياتهم؟
أدى تأسيس التعليم إلى العديد من التحولات المتوقعة. فانتقل الأفراد و العائلات إلى المناطق الحضرية للحصول على تعليم الدولة. بدأت الأسر تقيم فوائد التعليم الرسمي في الحصول على وظائف حكومية ومزايا الدخل المادي. وبالطبع ، فإن زيادة المعرفة تأتي بتحسين سبل المعيشة ، حيث يمكن للناس الوصول بشكل أفضل إلى المعلومات المتعلقة بصحتهم وفرص عملهم وحقوقهم وما إلى ذلك. في 50 عامًا فقط انتقلنا من معدلات قراءة وكتابة منخفضة جدًا إلى ما يقرب من 99٪ متعلمين مجيدين للقراءة والكتابة. أنا شخصياً أذكر الأيام التي كنت ما زلت في المدرسة الإبتدائية وأشتري الدفاتر لأعلم جدتي الأبجدية (معلمة من حيني ، كما يبدو) لأنها لم تملك بوقتها أي تعليم رسمي ، كانت أمية تماماً ولا تستطيع قراءة الأرقام أو الحروف. التحق جميع أبنائها بمدارس رسمية ، وذهب إبنها لدراسة الهندسة في الولايات المتحدة وأكمل أحفادها الثلاثة (من بينهم أنا) دراستهم العليا في الخارج
ماذا عن توحيد المناهج التعليمية في الخليج ، والمملكة العربية السعودية على وجه التحديد؟ كيف تؤثر المناهج الموحدة على جودة التعليم الذي يتلقاه الأفراد والمجتمع بشكل عام؟
بشكل عام ، يتم توحيد أنظمة التعليم الحكومية في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير، باتخاذ منهج مركزي مصمم و محدد من قبل هيئة رسمية. إن الأحجام الصغيرة النسبية لدول الخليج تجعل الاعتماد على منهجًا موحدًا للدراسة و تطبيقه سهلاً نسبيًا. المملكة العربية السعودية، مع كونها أكبر من نظيراتها بكثير، تعتمد أيضا توحيد المناهج، ولكن نظراً لحجم البلد وتنوع سكانها، فإن تطبيق و تقديم المنهج الدراسي المعياري يختلف على الأرجح من مدرسة إلى أخرى ، و من منطقة إلى منطقة ، اعتمادًا على موقع المدرسة والتركيبة الاجتماعية للطلاب. يطبق المعلمون و الإداريون الأنظمة بطرق مختلفة بناءً على هذه المتغيرات ، وعلى تفسيراتهم الشخصية للمناهج
بالإضافة إلى ذلك ، يؤثر السياق السياسي والحقبة الزمنية على طرق تفسير الطلاب للمعلومات التي يتلقونها. وهذا ما يعقد عملية توحيد المناهج. فعلى سبيل المثال ، قد ترسم المناهج دور المرأة كربة المنزل و ذلك يتم تقبله بسهولة في وقت تقل فيه الفرص المتاحة أمام المرأة في أوساط العمل. وعندما تتغير سياسات العمل لشمل المرأة ، تفقد تلك النصوص مصداقيتها و أهميتها ، فيبدأ التشكيك غالبا في الأوساط الحضرية ، بين بعض الأسر ، إلخ ، وتنتشر لتحويل المجتمع و العرف الراهن، وإن صاحب ذلك مقاومة بعض أجزاء المجتمع
ومع ذلك ، فإن صناع القرارات يميلون غالبا إلى البحث عن حلول وظيفية ، مما يؤدي إلى اتخاذ أساليب تقنية بحتة في النظر إلى التنمية الاجتماعية تحجم الناس كمدخلات في الإقتصاد بدلاً من عوامل فعالة في المجتمع. فإذا نظرت إلى الشباب كمدخل ، فإنك تميل إلى توحيد أسلوبك في التعليم. تُعرف هذه النظرية بإسم "نظرية رأس المال البشري": و تتخذ هذه النظرية الإعتقاد بأنه كلما استثمرت أكثر في الإنسان (في شكل تعليم وتدريب) ، كلما زادت إنتاجيتهم
وبما أن الدولة تحدد معايير و ماهية تلك الإستثمارات ، فإن أولئك الذين يتناولون النمط "الصحيح" من التعليم سيحظون بالمزيد من الفرص المتاحة أمامهم. لذلك غالبا ما يكون هناك بعض من التنقل الطبقي الصاعد عندما يتواجد التعليم في أماكن لم تكن موجودة في السابق، ويرجع ذلك أساسا إلى فرص العمل التي أصبحت متاحة نتيجة لذلك. على سبيل المثال ، لدى المملكة العربية السعودية قائمة محددة جدًا من المسميات الوظيفية التي تصنف الأفراد إلى أدوار محددة. فإذا أراد شخص ما متابعة تعليمه في مجال مختلف (مثل العلاقات الدولية على سبيل المثال) ، فإن قيمة هذا الإستثمار غالباً ما تكون أقل من الإستثمار في المجالات الأكثر تقليدية ، مثل الهندسة أو الطب
في واقع الأمر، غالبًا ما يظلم التعليم الموحد بعض من الطلاب. فنرى أن الطلاب المنتمين للطبقات الإقتصادية و الإجتماعية الأعلى أسهل في حصولهم على الموارد التي تساعدهم في تحقيق إنجازات أعلى مستوى في الفصل الدراسي ، مما يمنحهم فرصًا أكثر لأنهم يميلون إلى الأداء بشكل أفضل. و أنوه أن 10٪ فقط من السعوديين منتظمين للتعليم الخاص في المرحلة الابتدائية / الثانوية. يهتم التعليم الخاص بتنمية مهارات القراءة والكتابة والحوسبة في وقت مبكر ويطور بطلابه مهارات تتيح الوصول إلى مناصب وظيفية أعلى وتقدم وظيفي بشكل أسرع. سيكون لديهم على الأرجح فرصاً مستقبلية أكثر من أولئك ذوي الموارد المحدودة. و بالغالب يتم وصف الأخيرين "الأقل حظاً" بأنهم "فشله" مما يسبب حرمانهم الدعم الذي يحتاجون إليه لتحسين قدراتهم الشخصية لحياة افضل
بالإضافة إلى ذلك ، غالبا ما نرى في السياقات أن آراء ومشاريع وخلفيات واضعي السياسات ومطوري المناهج تصبح بدورها جزءاً لا يتجزأ من سياسة التعليم. في حين تم تصميم جزء كبير من النظام من قبل استشاريين. و أحب التنويه أن تطوير المناهج و كتابة النصوص ومراجعتها صممت من قبل لجان يسيطر عليها الذكور المنتمين في الغالب الى الخلفية الإجتماعية و التعليمية ذاتها .قد لا يتردد صدى هذه الأفكار عند بعض الطلاب مما يضعهم في وضع غير محبذ. يتم تكرار العديد من أوجه ألا المساواة الإجتماعية داخل غرفة الصف بهذه الطريقة. إذا لم يتم وضع سياسات واضحة مدمجة في النظام لمكافحة هذه الظواهر، فإنها سوف تكمل استمرارها
لقد ذكرت أن هناك جوانب من المعرفة ، مثل التاريخ والثقافة التي غالبا ما يتم نسيانها أو تجنبها أو إهمال الإحتفال والتنويه بها. ما تأثير ذلك على مجتمعنا وجودة تعليمنا؟ هل لدينا "ثقافة تعليمية ووعي" في الخليج ، وكيف يمكننا تطوير ذلك؟
يركز المصلحون التعليميون اليوم على أمرين: خصخصة التعليم والإنتقال إلى العصر الرقمي الجديد. تنبع فكرة الخصخصة من إعتقاد أصيل بأن نظام الدولة مكسور ولا يمكن إصلاحه، وهذا يمتد إلى الرقمنة حيث نعتقد أن المعلمين غير قادرين على نقل أطفالنا إلى القرن الحادي والعشرين مجهزين بالمهارات اللازمة. في كلتا الحالتين ، أولئك الذين يقودون هذه التوجهات ، مؤمنين أنهم يمكنهم إصلاح شيء أساسه مكسور
هذا النهج هو تنظيري للغاية ، وفي رأيي ، مهين . فالحلول المقترحة غالبا ما تفتقر إلى الواقع التجريبي والاحتياجات المحلية. أعتقد أن مشكلتنا تكمن في أننا مهووسون بالمستقبل ، بالتطور والحداثة ، بحيث ننسى أن هناك ثروة من المعارف المحلية المذهلة. يمكننا تطوير الثقافة والوعي التعليمي من خلال الاستماع عن كثب إلى الجميع ، وخاصة الطلاب ، حول طموحاتهم و تجاربهم و طرق اتصالهم بعالمهم المحلي والعالمي، فيمكننا تعزيز هذه الطموحات وتحويلها إلى طاقة إيجابية للنمو والتنمية