ليلى الحمد
عن تلاشي الحرفة الخليجية و تفكك الهوية التقليدية
ليلى الحمد مؤسسة زري كرافتس و باحثة و مطورة في مجال الحرف و التراث الخليجي
أخبرينا عن نفسك، وما الذي دفعك لدراسة و تطوير الحرف و التراث الخليجي
كبرت وترعرعت في الكويت في فترة السبعينات والثمانينات. وكباقي جيلي من الكويتيين المنتميين لتلك الحقبة، عشت في تزعزع بين عالمين. ذلك العالم الملون بقصص ابي في بومباي، والمزين برقع الطاولات المحبوكة بأيدي جدتي، وعالم جديد منبثق بالتحولات من الطرق السريعة والأطعمة الغربية. تسببت تلك التناقضات بشعور حنينٍ سائد غمر أبناء جيلي الذي ظل يحلم بماضً قد يكون أبسط و لكن كنا فيه مجتمع أكثر تضامننا و قربا. ظل يسودنا شعور زعزعة و اضطراب لبث يتفاقم موازياً سرعة النمو و التطور الحضاري. كنت أجد في بيت السدو وسوق المباركية بعض من الألفة التي لم أجدها في المستجدات من منطقتي، و لكن بعد مرور الوقت فقدت تلك الملاوذ روحها بقيت كغيرها من الأماكن بلا روح، كالأصداف الخاوية
أخذت بي دراساتي و اهتماماتي الأكاديمية إلى الخارج. في نهاية المطاف، شكٌل اهتمامي بمجال التنمية الدولية مساري المهني. و مع أنني لم أتخذ الكويت كمقر عمل في بداياتي المهنية، الا أن موطن نشأتي ظل في مخيلتي موضع تأمل و استعجاب. كيف يمكن لدولة بهذا القدر من التمكن المادي أن تفتقر إلى الكثير من مكونات التطور التنموي والاقتصادي؟ لماذا لبث إنتاجنا المحلي بمقام شديد التواضع؟ و في نفس الان، نجد توفر إفراطي بصرف المستحقات المادية. طالما ضايقت نفسي بهذه الأسئلة، غير قادرة على أن أفسر زوبعة التناقض التي تمر بها هذه الدولة اليافعة و الفريدة بحق من نوعها
بعد مضي عقدان من الزمن، رجعت إلى وطن أكثر بريقاً من الذي فارقته للدراسة. وشعور الزعزعة وعدم الانتماء الذي عرفته من قبل، سرعان ما تفاقم. أخذتُ أبحث عن تلك المعالم التي شكلت ماضيي وطفولتي ولم أجد منها إلا القليل. من بين المدرستين التي ترددت لهن، واحدة فقط ظلت واقفة، أو بالأحرى شبه واقفة. أما حارتي، التي كانت يوما ما محفوفة بأشجار النخيل، أصبحت منطقة بناء مجمع مطاعم حديثة. الجيل الكويتي الجديد أصبح ضائع ما بين نقيض العولمية المفرطة او المحلية المقلقة، وكلاهما غارق في أنماط الاستهلاكية و النرجسية السائدة. في هذا الوضع المُعزِل، اتخذت بنفسي على أن أطور مشروع قريب إلى قلبي. في سنوات عملي في مجال التنمية في المغرب و كمبوديا و اليمن، نمى في داخلي الاهتمام بدور الحرف و التراث بشكل عام. حيث تبين لي أن تسخير الرأس المالي الثقافي والتراثي ليس مجرد طريق نحو النمو الاقتصادي، إنما طريق يمهد لانبثاق صحوات على جميع الأصعدة. الرحلة التي اتخذتها في ٢٠٠٨ عندما ابتدأت دراسة الحرف و التراث في الكويت و الخليج اجربتني على التواضع، فقد حركت فيني مشاعر الروحانية و التقارب من أجدادي و أسلافي كما حركت فيني ساكن عميق تجاه استيعاب و إدراك القوة الكامنة في الطبيعة
ما السبب الكائن وراء اختفاء الحرفية في الخليج؟ هل يوجد أي مساحة لإعادة احياء الحركة المهنية؟
تحولان جذريان أدّوا إلى تراجع الحرفية الكويتية. أما الأول – و ذلك على صعيد المنطقة- فقد كمن في تحول اقتصاد الكويت و دول الخليج من اقتصاد ساحلي تقليدي إلى اقتصاد بترولي. أما الثاني، - و ذلك على صعيد عالمي- فيرتبط مع تحول عمليات الإنتاج في الدول النامية. بينما جلب التحول الأول ثراء بتولي فاحش، خلق الآخر نوع جديد من الاستهلاكية، وذلك بالإقبال على استهلاك منتجات مستوردة بقيم مخفضٌة سهٌل توافرها آليات الإنتاج الشامل. في ليلة وضحاها، باتت الحرفة المهنية بلا قيمة. في ظل إطار هذا التحول المحلي السريع، فشلت الكويت وجاراتها في الخليج بتسخير طاقاتها نحو إنقاذ الحرف والمهن المحلية ودمجها مع الاقتصاد الجديد. ما زاد ذلك الأمر تعقيدا، كان تبني الكويت أساليب اقتصاد الريع الذي وفر–ما بين أمور أخرى- العمل في القطاع الحكومي لجميع مواطنيها. في حين حسٌن ذلك التطور مستوى معيشة الكويتيين، قام -بدون قصد- بقمع توسع وتطور القطاع الخاص، الذي كان بإمكانه ان يُكوٌن مؤسسات قادرة على امتصاص واحتضان المهن والحرف التي تمكٌن منها الحرفيين المحلي
في كتاب جديد بعنوان؛ الحرف القديمة، الحركة التجارية في الكويت، ثبتت ٦٠٠ صفحة من الحرف و المهن التي تواجدت في الكويت قبيل الدولة الحديثة. أما في بحثي للحرف المتبقية في الكويت الذي قمت بإعداده قبل بضعة سنوات، شهدت للأسف حفنة بسيطة فقط من الحرف المتبقية. كان ممكن فعل الكثير للمحافظة و التطوير في تلك المهن اذ ما تواجدت هناك قوانين مدروسة و موضوعة لحفظها و تطويرها. أما بخصوص الوضع الذي نعيشه اليوم، فهو غير مستدام. الدولة تعتمد كليا على مصدر دخل واحد، البترول. وأثبتت آمالنا بالتوسع الاقتصادي معضلتها. في كويت ما قبل النفط، كان لكل فرد في المجتمع دور واضح لخدمة سائر مجتمعه. واستطاعوا معا أن يخلقوا ميناء مزدهر على أرض قاحلة. أما اليوم، فإن الثراء موجود، و لكن قدرتنا و طاقتنا الإنتاجية لا تزال بين الأكثر انخفاضا عالميا. صحيحٌ أنه توجد رغبة صحية بين شباب اليوم نحو تنمية غريزتهم الانتاجية -التي ضمرت في ال٦٠ سنة الماضية- الا ان الوضع المحلى الحالي معرقل لهذه الرغبات. نحن معرقلين ما بين الوضع التعليمي الضعيف الحالي، وهيكل الاقتصاد الريع الهش الذي تعودنا عليه بالحقيقة، أنا لا أشعر بالتفاؤل
في وصفك للتراث الخليجي قمتي باستخدام المصطلحات التالية: "العملية، النفعية والزهد." جميع تلك المصطلحات تشير الى عدم التكلفة والمبالغة في الاستهلاك والإنتاج. ولكن الخليجي اليوم أقرب ما يكون وصف حاله بالاستهلاك المفرط والمبالغة والاستزادة في الشراء والشكليات. باعتقادك، ما الذي أدى الي هذا التحول الجذري بالنمطية الاستهلاكية الخليجية؟
توجد بساطة جوهرية في بيئتنا الإيكولوجية والمادية التي تستوعب الحد الأقصى من التقشف. نخلة وحيدة في منتصف الصحراء، بإطلالتها الساحرة، كفيلة لتشبع مشهد إطار كامل. الحياة في صحرائنا طالما كانت قاسية. تطلبت سبل النجاة فيها الحاجة الى التنقل من مكان إلى آخر بحثا عن الكلأ والماء، حاملين معنا أقل ما يمكن. بنت تلك القيود ثقافةً تروج لأقصى درجات النفعية في الاستهلاك. توجب على الأمتعة شرط أن تكفي فقط ما يمكن حمله على سرج الجمل، ولا يمكن حمل أي زيادة أو فائض يزيد الثقل ثقلا. كما قال الفنان المصري/الأرميني المشهور شانت افدسيان؛ الثقافة العربية البدوية مثل السحر، لأن كلها تنتهي داخل صندوق واحد. في تجسيد حقيقي لعبارة "الأقل أكثر" وضعنا قيمة معنوية على حفنة مختارة من المقتنيات: النول، الخيمة، قدر القهوة، وحمالة الما
حتّم التنقل حياة البدوي. حتى في شعره، وهو أكثر مواريثه حفظا، تم التناقل فيه شفهيا، من دون الحاجة إلى ورق أو قلم. يوجد نوعا منعشا بحق عند اعتبار خِفّة في هذا النمط من الحياة. خصوصا إذ قارننا تلك الخفة بالاستهلاكية المفرطة التي نفضلها اليوم. من المؤسف أن نخسر فرصة المحافظة على ذلك النمط الزاهد أو حتى فرصة البناء على قيمه. إقبالنا على تكديس الثراء والانخراط في نمط المدنية الأمريكية، أثار نقطة التحول من ذلك النمط البسيط. اليوم، تحف سواحلنا وطرقنا الصحراوية المجمعات التجارية، مُشَكّلةً بتوافرها ثقافة استهلاكية مفرطة نرى ملامحها في انتشار السمنة و الأطعمة السريعة و جمع السيارات السريعة. قد يكون من المخطئ ان نسهب في التجميل من ماضي أسلافنا القاسي. ولكن، التمزق الثقافي الذي فُرض على الكويت و جاراتها من دول الخليج تحت رايات السعي عن البحث عن حضارة سطحية، قد تكون أكثر تضليلا. استمداد القوة والوحي من الطبيعة ونمط الحياة البسيطة قد يساعدنا في شق طريق طويل يساهم في تحول مجتمعنا من دوره المستهلك الى دور منتج للثقافة
كيف يمكننا استرجاع أهمية الحرفية الخليجية بدل من حفضها كمادة للحنية والتراث؟ ما هي الخطوات التي يجب خطوها لتهيئة بيئة إبداعية؟
مع أن الأوان قد فات لإنعاش الحرف للحياة، فانه لم يفت بعد لنقل الروح الكامنة وراء تلك الحرف. فنحن قادرين على أن نبني على تلك الجهود من أجل أن نعالج بعض المسائل الملحة في مجتمعنا. أعتق أن يجب أن لا نستهين بشأن دور التعليم في نشر هذا الوعي. ويجب أن نفك من تكبيل تلك المؤسسات و نساهم في تمكينهم على قيادة التغيير لماذا لا توجد هناك جهات أو مناهج تدريس خاصة بتنمية التصميم المستدام والهندسة المعمارية؟ لماذا لا نروج لدراسة و تطوير التصميم البدوي؟ لماذا لا نقدم دراسات تتناول حلول التظليل الإبداعي أو تصميم ملاجئ الحرارة الشديدة؟ نستطيع من خلال الاستفادة من الجوانب المستدامة لتراثنا أن نبتعد عن الأساليب الغير المستدامة لنظامنا الحالي. و ذلك قد يساهم في بناء
اقتصاد قوي قائم على وظائف عالية القيمة والابتكار. أظهرت البلدان الاسكندنافية، -وهي ايضا متأثرة بظواهر مناخية متطرفة- ، كيف يمكن لبعض من التخطيط المدروس أن يحول القيود إلى فرص : "لقد أعطي للفن والتصميم قيمة رمزية كبيرة في المناهج الدراسية ... وقد فهمت على أنها جزء من رأس المال الثقافي الوطني. إن التطورات في مناهج تعليم الفنون البصرية والتصميم مرتبطة بالقيم العامة لمجتمعات الشمال مثل ... الاستدامة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية "¹. وهذا النهج، وإن كان ناجحا في الدول الاسكندنافية، لا يمكن أن ينجح في الكويت والخليج إلا إذ ما غيرنا الهيكل الحالي لسوق العمل وقطعنا الحبل السري لقطاع عام غير فعال وغير منتج
¹ Mira Kallio-Tavin. European Art and Design Curriculum (Scandinavia and Nordic countries). In K. Freedman 1 (Ed.), International Encyclopedia of art and design education: Curricular aspects of art & design education. London: Wiley-Blackwell.
لماذا تضعين أهمية على مراجعة تراثنا الخليجي؟ هل يستحق التراث الخليجي ان يحفظ أو يورث؟
قبل بضع سنوات، في يوم أكتوبر دافئ، مع درجات حرارة تحوم في الثلاثينات، أتذكر تلقي رسالة نصية تعلن عن وصول مجموعة جديدة من ملابس الأطفال الشتوية من فرنسا. وعلى الرغم من عدم وجود إشكالية سطحية، انزعجت من الرسالة. هل يعقل أنه في بلد شديد الحرارة صيفا ومعتدل شتاء أن يُشكل نمط حياتنا واحتياجاتنا من قبل مناخ أوربا؟ هل تم إخماد كل وكالتنا الحسية بحيث أصبحنا مجرد مستهلكين لأحدث وأجدد المنتجات دون أخذ أي اعتبار للحاج ة أو السياق؟ أعتقد أن هذا الموقف الصغير موضح لمأزقنا الحالي. لقد كان لوتيرة التغيير السريعة الناجمة عن التضخم الاقتصادي للنفط، وإهمال القطاع الخاص المنتج و تنفيخ القطاع العام بالريع سبب لجعلنا مجتمع مستهلك بدون اي انتاج. كما تعتمد معظم لإنتاجية (المتبقية) في السياق الكويتي في الغالب، على العمالة الأجنبية. العمل، كما يعرّف-الانخراط في النشاط البدني أو العقلي لإنتاج نتيجة-، كان يوما دعامة لاقتصادنا البحري أما اليوم فقد تدنيت قيمته إلى مجرد ساعات دوام موظفين حكومة - أصبح العمل مجرد موقع مادي بدلا من مكان لبثق الإنتاجية- يسجلون فيه ساعات دخولهم و خروجهم
عندما آخذ في التفكير في حرفنا، موسيقانا، معمارنا، أرى ان الرأس المال الثقافي هو فعلا تجسيد للجهد البشري. ما زال بإمكاننا أن نبعد أنفسنا عن عبثية سياق اليوم. فسواء كانت الأيدي التي تنسج سعف النخيل أو تلك التي تكسر مرجان البحر يظل الجهد البشري الكامن الوحيد وراء تولد وتطور الثقافات. لم يتم اختراع الموسيقى في الكويت وراء جهاز الكمبيوتر ولكن كوسيلة لتحفيز البحارة خلال رحلات قارب طويلة وشاقة. الهندسة المعمارية الرائعة للخيام السوداء يعود الفضل فيها إلى زيادة وعي سكان الصحراء للواقعالبيئي الخاص بهم. وفي هذا الصدد، فإن إعادة تقييم رأس مالنا الثقافي يعود بنا إلى الحاجة لإعادة مراجعة قيمنا الاجتماعية. من أجل بناء مجتمع سليم، نحتاج إلى النظر في أنواع القيم التي ستبني فينا أناساً محترمين ومجتهدين وذلك يكون بنية إضافة وليس انتزاع القيم كما هو الواقع اليوم
ما هي الدروس التي يمكن أن نستنبطها من الماضي نحو مستقبل أكثر استدامة؟
عندما تعطي وزنا للرأس المال الثقافي الخاص بك، يصبح مصدرا للتمكين الاقتصادي والاجتماعي؛ فانك تبني على قاعدة و تكون الأساس الذي سيدعم لأجيال قادمة. وفي حالة الكويت، فإن التحول الاقتصادي السريع للبلد أضعف هذا الأساس. وعلى الرغم من أن الكويت تمكنت من الحفاظ على بعض من رأس مالها الاجتماعي الموروث من الأجيال السابقة، إلا انها فقدت الكثير من روح المرونة والتحمل التي عرفت عليها في سابق عهدها. وقد أفضى موقف الحكومة وسياساتها الأبوية إلى تأسيس مواطنة غير منتجة واستحقاقية وهذا الوضع غير مستدام على المدى الطويل. هناك اعتماد مفرط على الدولة في كل شيء -من توفير السكن إلى إيجاد وظيفة- . وهذا يخنق غريزة الإبداع وحل المشكلات لدى البشر، ويتناقض مع قيم الاعتماد على الذات التي عُرف بها كبار السن الكويتيين. من خلال فهم القيم التي ورثناها، يمكننا إعادة تكوين المسار الذي نريد أن نأخذه. الحرف تنقل معارف قيمنا وتعيد اتصالنا بطبيعتنا: الشمس، الطين، المرجان، الصوف والنخل
عندما بدأت في البحث عن الحرف الخليجية، مُلئت بشعور الفخر، - ليس بسبب مستوى تطور هذه الحرف- وإنما بسبب ندرة مواردنا الطبيعية، مما جعل السعي من أجل البقاء أكثر جدير بالملاحظة والتقدير. وعلينا أن نعترف بموروثنا الثقافي، ونعطيه القيمة التي يستحقها. أصر المهندس حسن فتحي الشهير على أن كل خط يُرسم "يجب أن يأتي من الجغرافيا المعطاة للأرض". لقد اعتدنا على اقتراض واستيراد الأفكار والتكنولوجيا وأنماط الحياة، إلى ان صد بحثنا لتلك المصادر طريق وجودنا. عندما تبدأ في تقدير قيمة الأشياء حولك فإن سلوكك حتما سيتكيف لإدراك تلك القيم واستيعابها. في نهاية المطاف، نحن بحاجة إلى تقييم وتأمل وضعنا الحالي، حتى نبدأ برسم نوع المجتمع الذي نسعى جاهدين من أجله على المدى الطوي