رنا المطوع

رنا المطوع باحثة إماراتية تسعى حاليًا للحصول على شهادة الدكتوراه في جامعة أكسفورد في مجال دراسات الشرق الأوسط مع التخصص في مسالة بناء الهوية الوطنية

 
 

يناقش عملك السرد الشمولي في وصف واقع سكان الخليج وفرض الشعور الملفق عن التجانس الثقافي. فقد طرحت أن "الصور المتجانسة تؤدي في النهاية إلى تهميش الأجزاء الأساسية من تاريخ وثقافة الخليج - مثل ثقافات العجم والبلوش وشرق إفريقيا". ما هو تعريفك لذلك السرد الشمولي، وكيف يختلف ذلك السرد عن الواقع المحلي؟

لا تأخذ الرواية الأحادية الحالية بعين الاعتبار تأثيرات ثقافات المحيط الهندي على الثقافة الخليجية ، فإنها ترسم الثقافة الخليجية على أنها ثقافة  "عربية بحتة" -أو حتى بدوية في الخصوص-. فعلى سبيل المثال ، تحتوي اللهجة الخليجية على العديد من الكلمات المستعارة الهندية والفارسية (تماماً مثل اللغة الهندية والفارسية التي تحتوي على العديد من الكلمات العربية) ، مثل كلمة "ديريشه" ، "تيجوري" أو "سيدا" وغيرها من الامثلة الكثير. هناك أيضًا لغات مختلفة يستخدمها المواطنون الخليجيون، مثل لغات العجم والبلوش. ومن خلال خبرتي في التدريس والأبحاث ، وجدت أنه عند وصف ثقافتهم ، يستخدم العديد من الخليجيين الأوصاف "الرسمية". و عندما يتعلق الأمر باللغة ، يتعتبر الخليجيون ان اللغة العربية فقط الجزء الأحادي من الثقافة اللغوية المحلية ، في حين أن لغات العجم والبلوش لا تحسب في ذلك الشمل.

كما أنه غالباً ما يُصوَّر اللباس "التقليدي" على أنه "الثوب" / "الدشداشة" ، "الغتره" و "العقال". و لكن  في واقع الأمر أن "اللباس التقليدي" كان و ما زال متنوعًا . فعلى سبيل المثال ، يتم استخدام العمامة (و هي تأثير المحيط الهندي) ، بدلاً من الغترة بين بعض الخليجيين ، وقد تناولت ذلك الموضوع بعمق في إحدى مقالاتي. كما نرى ايضا ان تأثير شرق أفريقيا على الموسيقى الخليجية التقليدية لا يتم  مناقشته كثيرا.

في بعض الحالات ، يكون الناس على دراية بهذا التنوع ولكنهم لا يرونه بالضرورة ممثلاً للثقافة المحلية - فان فكرهم عن الثقافة يستند إلى السرد الوطني. قد لا يكون الآخرون على دراية بهذا التنوع للبدء به ، وتحديدًا فيما يتعلق بمواضع معينة. على سبيل المثال ، وجدت أن الكثيرين ليسوا على دراية بأن هناك تمثيل للطائفة الصوفية في الخليج - على الرغم من أنه يمكنك العثور على صورهم وهم يمارسون طقوسهم.

حتى وقت قريب ، لم أكن أعرف نفسي أنه تاريخيا. تحدثت الدكتورة عائشة بالخير عن بعض الأسر الخليجية التي كانت تحمل اسم عائلة الأم بدلاً من اسم الأب. تلك الظاهرة تتطلب بحثا متكاملا في حد ذاتها. أعتقد أن دراسة هذه الزوايا من تاريخ المنطقة الاجتماعي - وليس التاريخ السطحي بشكله الحالي الذي لا يشمل سوى معلومات طفيفة عن المظهر و تاريخ  الغوص و اللؤلؤ أو الحياة البدوية - يمكنه أن يظهر لنا حقا تنوع الخليج.

 

 ما هو الدافع وراء إعادة النظر في هذا السرد التاريخي وتنقيحه كما هو سائد بين الحلقات الثقافية اليوم؟ أهو  لتشويه سمعة رموزنا المتجانسة؟ ما هو الغرض من تصحيح سرد التجانس و الشمولية في حين ان الحفاظ عليه يحفظ إحساسا ثابتا بالهوية؟

قد تختلف الأسباب بين الأكاديميين الذين يناقشون هذه المسألة. أما أنا، فقد كنت مهتمة شخصيًا بهذا الموضوع لأنني شعرت بأن لدينا ثقافة وتراثًا ثريًا غير ممثل وبالتالي لا يتناول التقدير الذي يستحقه. فقد رأيت في حياتي العملية و الشخصية  أن العديد من السكان المحليين لم يكونوا على دراية بالتنوع التكويني التاريخي في منطقتنا. و قد آمنت أن جذب الانظار الى هذا التنوع سيسمح للناس بأن يصبحوا أكثر تسامحًا تجاه الاختلاف وأكثر انفتاحًا على "الآخر" ، ويقدرون حقيقة أن التسامح و تقبل التباين كان متأصلا  في الخليج ولا يجب ربطه بسنوات التحديث. إنه دليل تاريخي يمكننا التطلع إليه.

على سبيل المثال ، تبين لي في بعض المقابلات التي أجريتها ، أن طوائف المسلمين المختلفة في المنطقة كانوا يتشاورون عن المسائل  الدينية في بينهم. و تظهر الصور أيضًا أن الصوفيين ، بالخصوص الشيخ المريد من دبي ، اعتادوا تشييد الاحتفال بالمولد النبوي ، وأن المسلمين من الطائفة السنية كانوا يحضرون تلك المواليد. كما اعتاد الناس على وجود الهندوس (البانيان) الذي وجد لهم حضور في عصر ما قبل النفط و احتلوا مناصب المصرفيين الموثوق بهم.

لا أستطيع التحدث عن سبب اهتمام الأكاديميين الآخرين بهذا البحث. أظن أن البعض فعل ذلك لأسباب مماثلة. لكنني لا أوافق على أن هذا السرد الوطني المتجانس هو ببساطة نتاج النشأة السياسية للدولة الخليجية الحديثة كما يزعم الاكثرية. عندما بدأت بحثي لأول مرة، كان تشكيل الدول الخليجية هو العامل الوحيد الذي يعاد تكراره لتفسير هذا السرد. لكنني عندما بدأت البحث في المجلات و كتب القوميون العرب ، سواء في الخليج أو في باقي دول الشرق الأوسط ، وجدت أن هناك الكثير من أوجه التشابه بين الروايتين.  فعند النظر إلى مجلة قومية عربية كويتية من الخمسينات ، على سبيل المثال ، كانت هناك حالات لا حصر لها تحدث فيها القوميون العرب بطريقة عنصرية صريحة تجاه الكويتيين العجم. كما تحدثوا بقوة عن "العروبة النقية (الاصل)" والتفوق العربي. بعض ما قالوه كان صادمًا بالفعل لدرجة أنني أسأل نفسي عما إذا كانت مقالات كتلك ستنشر اليوم.و لكن لأكون منصفه ، سمعت أن الحركة اعتذرت لاحقاً عن استخدام تلك اللغة، وإن يكن!

من المهم أن نضع في اعتبارنا أن القومية العربية كانت ولا تزال تعتبر حركة ديمقراطية وتقدمية.ما يزال الليبراليون من العرب ينظرون لأيام ذروة القومية العربية بحنيه كعصر أكثر ذهبية.

أعرف الكثير من الزملاء وأقرأ العديد من المشاركات التي  تكرر المغالاة بتلك الفترة أو حتى يتحاول إحياء أفكارها. و لكنني أعتقد أن هذا أمر خطير ، لأنه يبيض ويتجاهل بعض  الأفكار الضارة جدًا التي انتشرت في تلك الحقبة. أعتقد أنه من المهم ألا نفترض تلقائياً أن هذا التهميش لا يتم الترويج له إلا في "الأنظمة الأوتوقراطية" ، فانني أقر بأن بعض الحركات التي قد يُنظر إليها على أنها "ديمقراطية" او "تقدمية" قد لعبت دور الجناة الرئيسيين و خلفوا إرثًا لتلك الأفكار لتزدهر.

لتعزيز "الوحدة" بين العرب ، لم يناقش القوميون العرب "تفوق" العرب فقط ، بل سعوا أيضًا إلى تجانس المنطقة. لقد زعموا أن كل العرب لديهم لغة وتاريخ وثقافة مشتركه. لذا قاموا بتهميش الاختلافات العديدة التي منحت المنطقة ثرائها وتنوعها سعياً وراء ترويج المشاعر القومية العربية. بما أن جميع العرب يجب أن يكونوا متشابهين (أو حتى متطابقين) ، فإن لديهم ثقافة واحدة - والثقافة التي رجحت لتمثل العرب كانت في الحقيقة ثقافة القوميين العرب ، الذين أتوا من طبقات معينة من بلاد الشام ومصر. من المؤكد أن القومية العربية لم تكن العامل الوحيد الذي عزز التجانس في الخليج ، لكنني ركزت على هذا السرد لأنه حتى الآن ، كان كل التركيز على قيام ونشأة دول الخليج كالعامل الأساسي  المعزز لتلك الرواية.

 

ما هي العوامل التي سبقت النشأة و القومية العربية، التي سمحت للتنوع العرقي و الثقافي  بالازدهار في ذلك الآن؟

يجب علي الاقرار انه لربما كان هناك تعصب في الماضي لم أكن على دراية به ، لذلك آمل أن سردي لن يمجد ذلك الزمن. لكن على أي حال ، يمكننا أن نجزم أنه وجد هناك تنوعًا حضاريا في الماضي ، وربما كان أحد أسباب ازدهار ذلك التنوع أو على الأقل وجوده ، هو أن الناس كانوا أكثر عملية في ذلك الوقت. القومية العربية ، على سبيل المثال، رسمت إيديولوجية للعروبة الاصليه و "تفوقها"، و تلك الأيديولوجية كانت قائمة على أساس الخصوصية و التهميش. خلال موجة القومية،  بدأ الخليج حينها بالاقتراب من العالم العربي و أخذ يبتعد عن عالم المحيط الهندي. فإذا استمعت الى قصص الخليجيين الذين عاشوا خلال ذروة القومية ، فستجد أنهم حقا يتطلعون إلى بلاد الشام ومصر. كان العديد من شبابهم يحلم بالدراسة هناك وكانوا غالبا ما يسردون تجربتهم في زيارة مصر و الشام للمرة الأولى بحنيه و ذهول. لذلك ربما اختار الخليجيين القوميين أن ينسوا تنوع منطقتهم حتى يصبحوا أكثر شبهاً بالعرب في بلاد الشام ومصر.

قال براود في مقال يناقش فيه الموسيقى الأفريقية الخليجية، إنه في حين كانت موسيقى بلاد الشام ومصر شائعة في الخليج، لم تكن موسيقى الخليج شائعة في بلاد الشام ومصر. وعلق بأن هذا الأمر مؤسف فعلاً – خصوصا وأن الموسيقى الخليجية كانت ملونة بدقات أفريقية. سواء كان هذا صحيحًا أم لا ، فأنا لا أعرف ، يمكنك أن تستدل اليوم  بسهوله عندما تسأل أي شخص عن النجوم الكلاسيكية للموسيقى العربية – فترى أن حتى الخليجيين سيجيبون بأم كلثوم وفيروز. لذا يمكن القول إن ما يميز الثقافة "العربية" يأتي في الغالب من طبقات معينة من بلاد الشام ومصر ، مما أدى إلى تهميش الثقافات الأخرى في العالم العربي.

محفوظات شركة نفط الكويت

محفوظات شركة نفط الكويت

 

 في بحثك ، شرحت أن رسم الهوية المحلية كهوية "متجانسة" تعطي مصداقية للرواية  الاستشراقية حول المنطقة. هل يمكنك تفصيل رؤيتك عن الروابط التي تجمع ما بين الهوية والاستشراق ، و حتى ربما -الاستشراق التلقائي- في الخليج؟

الاستشراق التلقائي مثير للاهتمام لأنه يظهر بطرق مختلفة. على سبيل المثال، تراه في رحلات السفاري الصحراوية التي تستهدف السياح حيث يتم عزف الموسيقى غير الخليجية ممزوجا مع الرقص الشرقي – و تعرض على أنها تجربة تمثل الثقافة المحلية. يعلم الخليجيون أن الراقصات الشرقيات ليست جزءًا من ثقافتهم ، وأنها موجودة لاستهلاك السياح. في مثل هذا الموضع أتساءل إذا كان هذا تمثيلا  للاستشراق التلقائي؟ أم أنه استغلال لأفكار المستشرقين لغرض التسويق؟ ربما لا يزال يعتبر استشراق تلقائي ، لكنني أشعر أنه يوجد فرق بين المدرك و الغير مدرك أن هذه المظاهر ليست دقيقة. ما يثير القلق بالفعل هو عندما ننظر لأنفسنا في الخليج (و ليس فقط للغرض التسويقي) بالنظرة الاستشراقية التي كان الغربيون يمتلكونها عنا: كون أن ثقافتنا متجانسة ، وأنها عربية بحتة و يمكن تمثيلها فقط برموز مثل الجمل والصحراء والبحر واللؤلؤ ... إلخ.

من المهم أيضًا عدم التزمت الشديد ، خاصةً عندما لا يتم تهميش تاريخ وثقافات الشعوب المختلفة. على سبيل المثال ، أعتقد أنه من المهم أن يعرف الناس أن المباني الجديدة التي تبدو وكأنها تقليدية هي بالحقيقة مختلفة عن المباني التي استخدمها أجدادنا بطرق عديدة ، سواء في شكلها ، والمواد المستخدمة ، وكيف تم استخدامها ...إلخ. لكنني لا أعتقد أن هذه المباني يجب رفضها على أنها "استشراق ذاتي" و "زيف" ، كما سمعت بعض الأكاديميين أو المعماريين يصفونها. ولا أعتقد أنه ينبغي النظر إليها على أنها تمثيلات حقيقية للماضي. إنها جهود لإعادة خلق الماضي ، ربما بطرق غير دقيقة ، ولكن ما دمنا نعلم ذلك ، أعتقد أنه يجب علينا النظر بخفة.

في ظل هذا الحديث ، فإن النظرة التي ينظر بها الأجانب (و في ذلك بعض العرب) إلى الهوية المحلية و علاقتها بالاستشراق هي قصة أخرى. تجد أن الزوار يشكون من أن مناطق التسوق مليئة بتجار التجزئة الغربية العملاقة التي يمكن العثور عليها في أي مكان. هذا يخيب الزوار لأنهم يريدون تجربة شيء مختلف في دبي ، حتى يجعلهم يشعرون أنهم في مكان "مختلف". لكن هذا الشعور مستشرق تمامًا. لماذا من المتوقع أن تكون مدينة عالمية مثل دبي "مختلفة" عن غيرها من المدن المعولمة؟ يبدو أن بعض هؤلاء الزوار يأملون في التجول في سوق "تقليدي" حيث يمكنهم العثور على مواطن إماراتي مسن يجلس على واجهة متجره ويعمل على حرفة تقليدية. ولكن هذا ليس تصوير قريب لمعظم الإماراتيين والمقيمين في مدينة مثل دبي اليوم. نجد أن القهوة العربية في الفناجين الصغيرة يمكن أن يقدّره الناس، و لكن رؤية السكان المحليين كالشباب المتدافعين في ستاربكس ليس كذلك؟ هذا النوع من الزوار لا يبحث في واقع الأمر عن الثقافة أو فهمها. بل يبحثون عن صورة وهمية تجسد  ما "يجب أن تبدو عليه" مدن الخليج بناءً على ما يرونه في مخيلاتهم كرمز للمدن العربية. قد تكون هذه صورة تم الحصول عليها من وسائل الإعلام، في علاءالدين أو حتى بالمقارنة مع المدن العربية القديمة مثل القاهرة أو دمشق. و البعض الآخر لديهم تجاربهم الخاصة في "التنمية"، مما يفسر سماعنا العبارة "هذه المدينة تطورت بسرعة كبيرة" ، حيث يوجد توقع بأن المدن الجديدة لا يمكن أن تتطور إلا بالطريقة "الصحيحة" كالمدن أوروبية أو مدن عربية أقدم.

قد سمعت أيضًا بعض الزائرين (بما في ذلك العرب) يقولون إن مدنًا مثل دبي دولية للغاية. يقولون أنهم عندما يسافرون يريدون رؤية السكان المحليين - للتحدث إلى سائق سيارة أجرة محلي ونادل اماراتي. ومع ذلك ، عندما يسافرون إلى أماكن مثل نيويورك ولندن ، يتوقعون أن تكون هذه المدن متنوعة، ولا يشعرون بخيبة أمل لأنهم لا يتكلمون في نيويورك مع تاكسيًا أمريكيًا عاديًا. فلماذا يتوقع أن تكون المدن الخليجية أكثر "محلية"؟ وإذا كان هؤلاء الزوار يريدون معرفة ثقافة هذه المدن ، فلماذا لا يرغبون في التحدث إلى سائق باكستاني أو نادلة فلبينية خصوصا اننا نعرف أن هذه المجموعات تشكل نسبة كبيرة جدا من السكان في الخليج؟

 

مراكز التسوق ، ليس على مستوى الخليج فحسب ولكن عالميا ، نراها مشغلة من قِبل نفس متاجر التجزئة العملاقة والماركات التجارية الغربية. هذه الماركات لا تستورد الموضة فقط ، ولكنها أيضا مسحوبة بأنماط الحياة. ما هو تأثير البضائع المستوردة على الهوية المحلية؟

سمعت من بعض السكان المحليين أننا لا نرى ثقافتنا في هذه المساحات التجارية الضخمة. أتفهم هذا الشعور.  ولكن "الهوية المحلية" ديناميكية و في حالة تغير مستمر، فهي دائمة التأثر بالثقافات المختلفة ، فضلاً عن تأثير "قوى الهيمنة" في كل الازمنه. أتفهم القلق بشأن تأثير القوى العظمى والإمبريالية الجديدة. لكن في واقع الأمر فإن غالبية الناس عمليون جدا و يعيشون حياتهم اليومية. نراهم  يستخدمون تلك المساحات للاختلاط الاجتماعي وبذلك يخلقون هوياتهم الخاصة.

على سبيل المثال، يستخدم المحليون كبار تجار التجزئة مثل ستاربكس، و قد صبح جزء مكون في حياتهم الاجتماعية. و ذلك ايضا ينطبق على مراكز التسوق الكبيرة ، التي طالما تنتقد كونها مستهلكة ومتفاخرة و تفتقر لعكس الثقافة المحلية. لكن في حقيقة الأمر فإن هذه المراكز التجارية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس ، وليس فقط للغرض الاستهلاكي. من المهم أن نعترف أن الاستهلاك  هو جزء من التنشئة الاجتماعية ، وأن دفع ثمن تذكرة السينما أو وجبة هو أيضا شكل من هذه الأشكال. يستخدم الناس هذه المراكز للتسوق ، نعم ، ولكن أيضًا لتشغيل المهمات ، والتجول ، والاختلاط.

هذا يحدد نمط حياتهم ويصبح تجربة مشتركة تميزهم عن غيرهم. العديد من الشباب الخليجيين اليوم قد تربوا و كونوا حياتهم الاجتماعية في مراكز التسوق ، قد يكون المراهقين من  البلدان أخرى قد نشأوا في مجتمع يوفر أنشطة لا منهجية في المدرسة. انه ليس فقط التاريخ ، أو القيم الثقافية ، أو الوضع الاجتماعي او الاقتصادي الذي يتشارك فيه الخليجيون.  فإنه توجد ممارسات اجتماعية تساعد في بناء هوية مشتركة تماثلهم عن غيرهم.

قد يتذكر الجيل الأكبر سناً طفولتهم في الدكان (أو البوديقة) ، لكن ذكريات طفولتي تمثلت بين سلسلة أسواق Spinneys التي اشتكى الناس منها عند وصولها للفريج لأول مرة. أتذكر المشي هناك مع أبناء عمومتي في أيام الجمعة وحتى في العيد. في الواقع إن دكان حارتنا لا يزال موجودًا و مستخدمًا . و لكن عند النظر الى الجانب اجتماعي بدل من الاقتصاديً ، أعتقد أن السلسلة لعبت دورًا اجتماعيًا مشابهًا لي في طفولتي كما فعل الدكان للجيل السابق. أتساءل عما إذا كانت مراكز التسوق الكبرى اليوم (الهايبر ماركت) ستكون مرادفاً للأجيال الشابة كما هو الحال لي  ولجيلي من عمري بالنسبة إلى Spinneys.

و بالنسبة للشباب الذين نشأوا اليوم بين المراكز التجارية ، فقد  أصبحت تلك أيضًا جزءًا لا يتجزأ من ذكريات طفولتهم و سنوات مراهقتهم. تخلق الذكريات المشتركة كهذه  أيضًا هوية مشتركة. اذا همشنا تلك المساحات باعتبارها مستهلكة تمامًا و حكمنا عليها كخانقة "الهوية المحلية" ، فإنها بذلك ننكر إنسانيتها ومعناها للآخرين.

 

 ماذا عن المساحات الاجتماعية الأخرى الأقل استهلاكا والتي يمكن أن تجمع الناس معا؟

بكل صدق ، أجد العديد من الأماكن الثقافية التي تسعى إلى اللا استهلاكية انها تتحول الى مساحات أكثر حصرية من المساحات الاستهلاكية. على سبيل المثال ، غالبًا ما يسيطر المفكرين والنخب- وليس الأفراد "العاديين"- على المعارض الفنية غير الربحية والمعارض والمحادثات ودور السينما المستقلة. و غالباً ما يكون أولئك الذين يرتادون هذه المساحات من طبقات  "متقدمة" تعارض النزعة الاستهلاكية والرأسمالية والفصل العنصري - ومع ذلك لا يبدو أنهم يتمتعون بموقف نقدي تجاه هذه الأماكن كما يفعلون تجاه متاجر التجزئة الكبرى ومناطق التسوق. . أعتقد أن هذه الأماكن الغير التجارية فعلا تملأ فراغًا لفئات معينة و تكون بذاتها أجزاء مهمة من المدينة. لكنني أؤكد أن العديد من مراكز التسوق والمراكز التجارية تعد مساحات أكثر راحة لمختلف شرائح المجتمع من المساحات الثقافية الفكرية.

مراكز التسوق الكبيرة، على سبيل المثال ، لديها مطاعم تتراوح من ماكدونالدز إلى فوشون ، وهذا يعني أنها تلبي احتياجات فئات و طبقات مختلفة من المجتمع. صحيح أن تلك الفئات لن تتفاعل بشكل وثيق فيما بينها، و لكن على الأقل فأنها تتشارك في نفس المساحة - و هذا الأمر لا يحصل في العديد من الأماكن الثقافية "المتقدمة"، بغض النظر عن الاستثناءات.  لهذا يمكن القول إن مراكز التسوق تذكر الناس بالاختلافات الطبقية و السكانية بين أهل المدينة ، فهي تهيء (أو حتى تفرض)الوعي بين الناس. في بلدان أخرى يخدم الشارع العام ذلك الغرض كمساحة عامة ، ولكن في الخليج، قد يكون المركز التجاري أحد أقرب الأماكن العامة البديلة إلى الشارع. لهذا السبب ، أرى أن مراكز التسوق تحولت ، ولو بدون قصد، إلى مساحات شاملة إلى حد ما. أبني رأيي هذا على  مراكز التسوق في دبي - سمعت ان مراكز التسوق في بعض بلدان الخليج تقيد و تحد من دخول "العزاب" خصيصا المقيمين من دول جنوب آسيا ، لذلك ربما الديناميات في تلك البلدان مختلفة بعض الشيء.

أحد الأحياء التي يُستشهد بها في كثير من الأحيان كمثال جيد للمساحة الاجتماعية هو حي سطوة في دبي. الناس تعيش ، و تعمل ، و تتسوق  ، وتقضي أوقات فراغها هناك - لذا فإن سطوة عبارة عن فضاء متعدد الاستخدامات ومساحة اجتماعية. الآن - يمكن للناس من جميع الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية  التسوق في سطوة . و لكن أولئك الذين يعيشونها ويستخدمونها غالباً ما يكونون من خلفيات اجتماعية واقتصادية أقل. وهذا ما يجعلها مثالًا رائعًا كمساحة اجتماعية. مع ذلك  ما زلت أعتقد أنك قد تجد المزيد من التنوع في مراكز التسوق ، ذلك أمر هام بالنسبة لي.

 

 لذا أصبحت تلك المساحات ، إلى حد ما، شاملة لمختلف مكونات المجتمع. في هذا الغرار، ماذا عن المتاحف و / أو الجامعات "المستوردة"؟ هل في إمكانهم إثراء مجتمعاتنا؟

أعتقد أننا بحاجة إلى جعل مؤسساتنا أقوى وأكثر قدرة على إنتاج مواطنين مفكرين ومتفوقين، مع ذلك فإن خبرتي في التدريس في الجامعة الوطنية جعلتني أعيد النظر  في معارضتي للمؤسسات المستوردة.

هناك الكثير من القيود المفروضة على الجامعات العامة التي تحررت منها  الجامعات الخاصة ، مثل كيفية إبلاغ أولياء الأمورعندما تدخل بناتهم / زوجاتهم إلى الحرم الجامعي و تغادره ؛ كيف لا يملك الأساتذة أي استقلالية  في الفصل الدراسي ؛ أو حتى الأشياء البسيطة مثل أخذ الطلاب إلى متحف محلي لمدة ساعة تتطلب موافقات مطولة.

ما أحبه في الجامعات العامة أنها  تجمع ما بين خلفيات اقتصادية مختلفة. ولكن، لا يوجد الكثير  أبعد من ذلك، فمعظم الطلاب ينتمون إلى جنسية ودين وجنس واحد. هذا يجعل من الصعب الحصول على وجهات نظر وأفكار متنوعة في كل من الفصول الدراسية والخبرات الجامعية الشاملة.

حقيقة أن الإماراتيين يمكنهم الآن ارتياد جامعات على وزن جامعة نيويورك في ديارهم ، إذا لم يتمكنوا من السفر ، تحدث فارقا ملموسا. و الفرق ذاته حتى لو تمكنوا من السفر ، لأن العديد من الدورات والمؤتمرات والفعاليات في هذه المؤسسات المستوردة تركز بالفعل على منطقة الخليج في مناهجها، ،و ذلك  شيء مفقود في التعليم في الخارج. من المهم أن تتواجد هذه المساحات في الداخل ، و ان كانت مستورده ، لأنه تسمح لأولئك الذين لديهم ميول فكرية وإبداعية أن يشعروا بأن لديهم مكانا لهم في ديارهم ؛ و يمكنهم العثور على أنشطة أكاديمية و تعليمية وثقافية هنا ، ولا يجب أن يتم عزلهم. تسمح الجامعات المستوردة لمزيد من الاستكشاف والتفكير النقدي والأفكار العاكسة والمتنوعة.

قد يقول البعض أننا بحاجة إلى الانتظار، فان  تلك الأمور ستنمو بيننا ببطء. لكنني لا أعتقد أنه من الصحيح ان نعلق مصالح  جيلنا وأجيال المستقبل بسبب الأيديولوجيات حول التعليم / الثقافة / التنمية. أعتقد أن هذا الموقف ضار ويضع الأيديولوجية فوق خبرات المعيشية الفعلية - ذلك الفكر  يتجاهل كيف يمكن للاشخاص ان يستفيدوا من هذه المؤسسات و يفيدوا الآخرين منها. من السهل القول أنه لا ينبغي أن يكون لدينا تعليم مستورد إذ لم يكن صاحب المقولة نفسه عالقاً في ذلك النظام.

على سبيل المثال ، على الرغم من أن الجامعات العامة متوفرة بالمجان لجميع المواطنين على عكس الجامعات الخاصة (باستثناء جامعة نيويورك في أبو ظبي مجانية لجميع الإماراتيين و ابناء الإماراتيات) ، إلا أنها ليست بالضرورة جزءًا مكون من المجتمع. في الجامعة التي عملت بها بالسابق ، نادراً ما زارنا  العامة من خارج الجامعة لاكتشاف الأحداث أو حضورها. الجامعات العامة مغلقة فعليًا أمام العامه، باستثناء النادر جدا من الفعاليات (قد يختلف ذلك مع دول الخليج الأخرى). في الوقت نفسه ، فإن مؤسسات الخاصة مثل جامعة نيويورك تقدم محاضرات مفتوحة للعامة يوميا. أعتقد أن هذا الوجود قد أحدث فرقًا كبيرًا للمجتمع الثقافي خارج صرح الجامعة.

بطبيعة الحال، لا تزال المؤسسات المستوردة تواجه العديد من المشكلات. توفر الفرص لمختلف الطبقات  الاجتماعية و الاقتصادية هي قضية يجب أن نراعيها دائما. التمييز أيضا مشكلة واردة. حتى لو تمكن الإماراتيون من دخول الجامعة مجاناً ، لا نرى إلا العدد القليل من  الإماراتيين (أوالخليجيين) كأعضاء هيئة التدريس. هناك أيضاً عدد قليل جداً من الطلبه الإماراتيين ، رغم أنني أسمع أنهم في تزايد في الفترة الأخيرة. أعتقد أنه يوجد إشكالية عندما يعقد لدينا مؤتمر في الخليج لنرى انه يوجد بالكاد أي متحدث خليجي مدعو. بصراحة، هذه مشكلة واردة  في الجامعات العامة أيضًا. أعتقد الحل يكمن وراء بذل الجهود لزيادة الوعي بهذه القضايا و تغيير هذه الجامعات المستوردة بدلاً من رفضها ككل.